الأحد، 18 سبتمبر 2011

الـثـورات تـجـب مـا قـبـلـهـا - للدكتور عبدالكريم الخضر

بسم الله الرحمن الرحيم
الثورات تجب ما قبلها
ايها الثائرون المنتصرون أعفوا عن الظالمين المستبدين فالثورات الشعبية السلمية الناجحة ينبغي أن تكون كالتوبة تجب ما قبلها
اهداف الثورات لا تتأثر بأحداثها:
نعم إن الثورات بجميع ما اشتملت عليه من أحداث درامتيكية متلاحقة وافعال متتابعة ومع محاولة بعض أعدائها جرها الى مستنقعات العنف من أجل تسويغ ضربها عسكريا وقمعها قد لا يدرك ممارسها نتيجة السير فيها فيفقد أحيانا معها حسن التصرف او نوعية الفعل فإنها مع ذلك ينبغي أن تتسامى بأفعالها وتصرفاتها المتزامنة مع وقت وقوعها كما تسامت بأهدافها التي قامت من أجلها,فلا تتأثر أهدافها بأحداثها,وذلك حينما يسمو هدف الثورة فتصبح هي الفتح المبين الذي انتظرت الشعوب المظلومة حصوله وتحقيقه,بل وبذلت من اجلها أغلى ما تملك من مال ووقت ونفس بعض الأحيان, بل وماتت أجيال قبل أن تراه, وتشم عبيره وعبق نشوة الحرية التي فيه .إنها بيان الصراط المستقيم لما يجب أن تكون عليه الحياة
الانتقام ليس من أفعال الكرام:
وبناء على ذلك فإن بعض الحكماء يرى انه ليس من مكارم الأخلاق أن يعيش الشعب الثائر على الظلم عند انتصار ثورته أوج الفرح وعز النصر, ونشوة الكرامة وحصول غاية الحرية , بينما تعيش فلول الأنظمة السابقة وبلاطجتها ومباحث واستخبارات الحكومات البائدة جزء من النكد الدنيوي جزاء ظلالهم السابق بسيرهم خلف هؤلاء المستبدين من الحكام الضالين المضلين ,وإزاء تصرفاتهم المشينة السابقة.وذلك ما طبقه رسول الحق ونبي الهدى والرحمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما تسامى عن الأحقاد الدنيوية القاصرة و الاكدار الحياتية المتزايدة وغشاوة الانتقام, وعاش فرحة الانتصار وسعادة التمكين, فلم يرد أن يكدرها بغضب ولو كان يسيرا ,حتى لا يطرأ على هذا الفرح الغامر والنشوة المنتشرة أي كدر بتطبيق عقوبة دنيوية على من تسبب في كدره وتأخر دعوته دهراً فقال كلمته المشهورة لأعدائه ومعيقي دعوته وهم كفار قريش الذين لم يتركوا طريقاً يعرفونها إلا حاولوا فيها أن يؤذوه بل أن يقتلوه ومع ذلك قال كلمة الكريم عند النصر حينما تسموا الأهداف عن توافه الأمور :(أذهبوا فأنت الطلقاء)إنه العفو العام عن الأعداء وقت النصر وحصول التمكين ولو كانوا مشركين فكيف لا يعفوا المؤمن عن أعدائه المسلمين.
أعظم الذل ذل الهزيمة:
أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن ذل الهزيمة ذل عظيم ما بعده ذل وانكسار كبير وكدر لا يضاهيه كدر فاكتفى بإيقاعه على أعدائه ولم يزد على ذلك بانتقامه منهم أو محاكمتهم.فيكفيهم ما أصابهم. وما يمكن أن يأتي بعده فلن يصل درجته بل سيضل اثره دون ذلك, وهذا بعض ما يغري الإنسان بترك المتابعة بقصد الانتقام والاعتقال بقصد الإذلال,فما أصابهم من هزيمة كافية لهم في تعلم كل ما ترتب عليها من دروس وما اشتملت عليه من عبر

النصر يغني عن الانتقام
إن كان ما فعله هؤلاء المستبدين والطغاة والمجرمين معصية في الدين ومخالفة لأمر الله ,وسوء خلق في الدنيا فسيعاقبهم الله على جرائمهم وأخطائهم في حق الله رب العالمين وحق الخلق أجمعين ,وان كان معصية منه في حق الشعب العاملين الذين آثرهم الله رب الدين فيكفيهم هذا النصر عن أن تنحدر غاياتهم في السحيق, بدلاً من أن تعانق هممهم الجوزاء في سمو الأهداف وعلو المقاصد. وهذا خاص بالجرائم العامة التي تعنى بعموم الأمة, كسوء التصرف في حق الأمة أو نهب ثرواتها فيكتفا بأخذ ما سرقه مثلاً.دون إيقاع العقوبات البدنية ,
أما في حالة الجرائم الخاصة التي تعنى بخصوص الأفراد فلكل شخص من التصرف ما يسمح به الشرع ويتوافق مع مبادئه وأخلاقه لكنه لا ينبغي له أن ينشغل أو يتغافل عن المثل العربي الرصين ( العفو عن المقدرة) وفيه أيضا ورد الحث من الله في قوله تعالى: فإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم فيه ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) بل هو ما نص الله عليه بأنه اقرب للتقوى.
توفر اركان الجريمة شرط في لزوم العقوبة:
ولعل مما يحتم على الفضلاء من الثائرين المنتصرين العفو والمسامحة عن الظالمين المستبدين انه ليس الظالم المستبد هو المخطئ لوحده بل هم يشاركوه في الجرم والخطيئة فكيف يحاكموا ويعاقبوا احد أركان الجريمة والخطيئة ويتركوا الركن الأساس وهم:الثائرون أنفسهم حيث إن الظالم والمستبد لا يستطيع إن يكون ظالما ومستبدا وناهبا للثروات ومعتقلا لأصحاب الرأي إلا بمساعدة ومؤازرة من هؤلاء المظلومين أنفسهم والذين أصبحوا هم المنتصرين وإلا لو لم يساعدوه ويهيئوا له الفرصة المناسبة ما استطاع إن يعمل جرائمه تلك فما سكوتهم كل تلك السنين وصمتهم طيلة الفترة السابقة إلا مساهمة جلية منهم في الظلم والاستبداد وذلك أنه من المعلوم إن أي جريمة لا يمكن إن تكون مكتملة حتى تتوفر فيها العناصر الثلاثة/ مجرم وفعل ومكان أو محل وقوع الجريمة. فإذا توفر المجرم وهو الظالم المستبد والطاغية الناهب لخيرات وثروات الأمة وتوفر فعل الجريمة وهي الظلم والاستبداد والفساد ونهب الخيرات والأموال واعتقال المواهب والقدرات وقتل المعارضين وتوفر مكان ومحل الفعل وهو الشعب الصامت الساكت بل أحيانا المبارك لهذه الأفعال وأحيانا المشرع لها والمفتي بجوازها إن لم يكن وجوبها لم يعد أمام الحاكم المستبد الظالم وبحكم هذه الفتوى سوى الالتزام بها لعدم وجود المسوغ أمامه لترك فعل ما أفتاه علمائه بجوازه بل وحرموا على العامة الاعتراض عليه بل (وأشعروهم إن مجرد اعتراضهم على الظلم يعتبر معصية منهم يعاقبهم الله عليها يوم القيامة) حتى لم يعد أمام الحاكم المستبد الظالم بد من أن يعتقد أن تركه لهذه المظالم ترك منه لأمر واجب عليه فهو يفعله من قبيل فعل الواجب الشرعي الذي يرى وبناء على فتوى المفتين انه لامناص له منه حيث ذكروا له وجوب هذا الفعل كما حصل من بعض مفتي الحكام بوجوب قتل المتظاهرين وسحق جماجمهم من أجل إن يحفظ الأمن(زعموا) لبقية الأمة,أو من أجل وأد الفتنة. فهو إذا أحيانا قد ينهب أو يعتقل أو يفسد لا حبا في ذلك الظلم أو القتل أو الإفساد أو الاعتقال لكنه يفعله أداء منه لهذا الواجب ولو كان كارها لفعله لكنه لا يريد أن يقع في المعصية بناء على فتوى هؤلاء المفتين . وبناء على ذلك يتضح مسوغ العفو عن الظالم المستبد بعد نجاح الثورة ,وانه واضح جلي في قياس جرائم الطغاة المستبدين على حد السرقة مثلاً حيث إن السرقة لابد فيها من سارق وفعل للسرقة وشي مسروق موضوع في حرزه وإذا تخلف ركنا منها سقط حد السرقة .فإذا قمنا بقياس الحاكم على السارق والفعل على الفعل وقسنا الشعب المظلوم والمال المنهوب والشاب المعتقل على محل السرقة صح القياس.
ظلم الحاكم برضا المحكوم:
وذلك لأنه إذا تخلف الركن الثالث وهم الشعب بأن رفضوا الظلم أو رفضوا الاستبداد أو رفضوا الاعتقال ونحو ذلك لم يحصل الظلم والطغيان والفساد فلم تقع الجريمة ومعنى هذا أن السارق لا يمكن إن يعاقب إلا إذا توفرت الأركان الثلاثة لهذه الجريمة وكذلك الحاكم المستبد الظالم لا ينبغي إن يعاقب إلا إذا توفرت جميع أركان الجريمة في حقه ,وذلك لان من أهم هذه الأركان الثلاثة في هذه الجريمة أن يكون الشعب أبي منكر للظلم رافضا له. وإذا تحقق ذلك أمكن تطبيق العقوبة على الحاكم الظالم المستبد بالحق الخاص الذي من حق أي شخص إن يطالب به إذا كان قد وقع عليه ظلم منه.
الشركاء في الظلم والاستبداد:
وبناء على هذا فإن الظالم لا يمكن إن يعاقب إلا إذا توفرت الأركان الثلاثة وطالما علمنا يقينا انه لا ينبغي إن نعاقب الظالم لأننا معاشر الشعوب شاركنا معه في هذه الجرائم حيث إننا معاشر العامة سكتنا ورضينا الظلم والذل والعلماء والمثقفين بفتاواهم ومقالاتهم باركوا هذا الظلم وشرعنوه بل وجدنا من المفتين من ذكر لهم وجوب السحق وتهشيم الجماجم في سبيل محاربة الثائرين على الظلم والمتظاهرين إذاً فالظالمون لم يقدموا على ما أقدموا عليه إلا بعد إن سوغ لهم هذا الفعل وافتاهم المفتون بجوازه بجميع الطرق الممكنة حتى ولو أدت إلى قتلهم جميعا ولذلك وجدنا من أوجبوه عليه ففعله ديانة بحسب ظنه
وبناء على كل ما سبق فإني أرى إن من مكارم الأخلاق العفو عن المظالم العامة عن الحكام والموظفين العامين خاصة أولئك الذين ثبت عليهم مظالم متعلقة بعموم الأمة من نهب وظلم لعموم الأمة و لم تثبت عليهم مظالم خاصة من قتل أو تعذيب ونحوها في حق خواص الشعب. وهذا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عن صحابته وهو ما تتأصل معه شرعية العفو والمسامحة والعمل بالمبدأ السامي القائل ( الثورة تجب ما قبلها) كتبه أ.د / عبد الكريم بن يوسف بن عبد الكريم الخضر
أستاذ الفقه المقارن في قسم الفقه كلية الشريعة في جامعة القصيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق